جهاد النفس بملأ الفراغ بمنهج الله ( 1 )
بسم الله الرحمن الرحيم
جهاد النفس بملأ الفراغ بمنهج الله
الجهاد في سبيل الله (جهاد النفس-المحافظة على الفرائض)
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
فريضة الصلاة:
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج ، وصوم رمضان) [اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: (1/3)]
وفي حديث عمر بن الخطاب-المشهور بحديث جبريل-قال: "يا محمد أخبرني عن الإسلام؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا) قال: "صدقت..." [[مسلم: (1/37)]
وقد وردت نصوص القرآن التي توجب الصلاة بأساليب متنوعة:
منها الأمر بإقامتها، مثل قوله تعالى: ((وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون)) [الأنعام: 72]
ومنها الأمر بالمحافظة عليها، مثل قوله تعالى: ((حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)) [البقرة: 238]
ومنها ذم ووعيد من أضاعها وفرط في أدائها، كما قال تعالى: ((فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا)) [مريم: 59]
ومنها جعلها قرينة لبعض أصول الإيمان التي لا فلاح لمن لم يتصف بها، كما قال تعالى: ((الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)) البقرة: 1-5] وغير ذلك من الآيات التي لا يقصد هنا استقصاؤها.
أما أثر الصلاة في تزكية المسلم وتربيته، فهو من الأمور التي يمكن معرفته من النصوص الكثيرة، من الكتاب والسنة، ولكن العلم الحق بذلك الأثر، لا يؤتاه إلا من ذاقه حقا في نفسه، بإقامتها، كما كان يقيمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحافظ عليها كما كان يحافظ عليها، مع الإقبال على إليه وخشيته والإنابة إليه، وتدبر آياته وذكره فيها، فهي ركن من أركان فلاح المسلم، ولا فلاح له بدو نهاكما مضى في الآيات الأولى من سورة البقرة قريبا.
وكذلك قوله تعال: ((قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى.)) [سورة الأعلى: 14-15] فقد علق سبحانه الفلاح بتزكية النفس، وذكر ما يتزكى به المؤمن، وهما ذكر الله والصلاة.
كما ذكر الله تعالى الصلاة، على رأس صفات المؤمنين المفلحين، في الدنيا والآخرة، بذكر بعض صفاتها، وهو الخشوع فيها، وختم بها كذلك تلك الصفات، بذكر بعض صفاتها الأخرى، وهو المحافظة عليها، مبينا سبحانه آثارها في المقيم لها، ومنها الفلاح ووراثة الفردوس والخلود فيه.
كما قال تعالى: ((قد أفلح المؤمنون(1)الذين هم في صلاتهم خاشعون(2)والذين هم عن اللغو معرضون(3)والذين هم للزكاة فاعلون(4)والذين هم لفروجهم حافظون(5)إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين(6)فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون(7)والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون(8) والذين هم على صلواتهم يحافظون(9)أولئك هم الوارثون(10)الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون(11)) [المؤمنون: 1-11]
ويظهر من اكتناف ذكر الخشوع في الصلاة، وذكر المحافظة عليها، أن الصفات الحميدة التي ذكرت بينهما لا تصدر إلا من مقيم الصلاة، ومما يدل على ذلك ـ وهو من آثار إقامة الصلاة والمحافظة على كونها تنهي عن الفحشاء والمنكر _ قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر . والله يعلم ما تصنعون) [العنكبوت: 45] وهذه من أعظم علامات إقامة الصلاة كما أمر الله ومن أهم ثمارها وأثرها في تزكية نفس المسلم وتربيتها.
ومن آثارها أنها قرينة الصبر في استعانة المؤمن بها على طاعة الله واجتناب معصيته، كما قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) [البقرة: 45] وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) [البقرة: 153].
ومن آثار إقامة الصلاة أنها من أسباب الإحسان إلى الناس ولذلك تجد الإنفاق وإيتاء الزكاة مقترنين بها في أغلب أي القرآن، كقوله: (ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) [البقرة: 3].
وقوله: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) [الأنبياء: 73].
ولقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر الصلاة في تزكية النفس البشرية وتطهيرها من أدناس الشهوات والمعاصي فشبهها، في تكفير السيئات ومحو الخطايا، بنهر جارٍ بباب المسلم ـ وفي قرب النهر منه إغراء على كثرة الاغتسال والتطهر ـ وهو يغتسل فيه كل يوم خمس مرات فلا يبقى على جسمه شيء من الأوساخ.
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك؛ يبقى من درنه قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا". [البخاري: رقم528، فتح الباري: 2/11 ، ومسلم: 1/462].
ولا يزال المؤمن يزكي نفسه بالصلاة حتى تصبح ملجأ له، يستريح بها من الهموم والأتعاب كما في الحديث: (يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها) [أبو داود: 5/263، قال في عون المعبود: والحديث سكت عنه المنذري ـ 13/231 ، وذكر الحديث صاحب كشف الخفاء ـ 1/108 ـ ولم يزل عنه الإلباس].
وتتوق نفس المؤمن إلى الطيبات التي أحلها الله له فيحبها، ولكن عينه لا تقر إلا عندما يقف أمام ربه مستقبلاً القبلة مكبراً خاشعاً في صلاته، كما قال صلى الله عليه وسلم: "حبب إليَّ من ديناكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة" [الجامع الصغير ورمز لمن أخرجه بـ(ح م ، ن ، ك ، هـ ق) ولدرجته ب ، ح أي حسن ، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته، وقال: صحيح3/87].
والنفس البشرية التي يجاهدها صاحبها حتى تصل إلى هذه الدرجة، فلا ترتاح إلا بطاعة الله تعالى ولا تقر عينه، إلا في مناجاة ربه والتقرب إليه، جديرة أن تكون نفس من يجاهد في سبيل الله جعلنا الله ممن يصل إلى تلك الدرجة أو يقرب منها.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفذ أمر الله سبحانه بالاستعانة بالصلاة فكان إذا نزل به ما يهمه لجأ إليها مستعيناً بها كما في حديث حذيفة الذي رواه أبو داود: (كان إذا حزبه أمر صلى) [أبو داود (2/78) صحيح الجامع الصغير للألباني (4/215) وقال: (حسن)]. وهذا أمر زائد على الصلاة المفروضة لكنه يظهر تعلق المؤمن بها تعلقاً يجعله جديراً بأن يكون من المجاهدين في سبيل الله.
أثر الزكاة في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
سبق ذكر بعض النصوص الدالة على أن الزكاة ركن الإسلام الثالث، ويكفي ذلك في إثبات وجوب أدائها.
أما أثر أدائها في تزكية المسلم وتطهيره من الذنوب والمعاصي لتسمو نفسه حتى يصبح أهلاً للانخراط في سلك المجاهدين في سبيل الله فمنها ما يأتي:
قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) [التوبة: 103].
وتظهر آثار الزكاة في النفس البشرية من هذه الآية، حيث جعل الله تعالى الزكاة سبباً في التزكية والتطهير لتلك النفس التي كان من أهداف بعث الله تعالى رسوله إلى الناس تزكيته إياهم وتطهيرهم من كل دنس في حياتهم كلها، كما قال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [الجمعة: 2].
قال سيد قطب في قوله : "(ويزكيهم): وإنها لتزكية، وإنه لتطهير، ذلك الذي كان يأخذهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ تطهير للضمير والشعور، وتطهير للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية، تطهير ترتفع به النفس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح، ويرتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني، ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال..
إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة، ولحياة السريرة وحياة الواقع، تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها، وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه ويتعامل مع الملأ الأعلى، ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم) [في ظلال القرآن: (28/3565)].
وإنما كانت الزكاة سبباً في التزكية والتطهير؛ لأنها دليل على صدق إيمان العبد الذي تغلب على شح نفسه، فأخرج من ماله الذي تعب في جمعه ما أمره الله تعالى به، ولأنها دليل على أن المؤمن الذي أداها قد فاز في المعركة مع عدوه الذي يخوفه من الفقر ويأمره بالفحشاء، لنجاحه في طاعة ربه الذي أمره بالإنفاق ووعده بالفضل الجزيل من عنده، كما قال تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم) [البقرة:268].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أي الصدقة أعظم أجراً؟) قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم) قلت: (لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان) [البخاري: رقم1419 فتح الباري (3/284) ومسلم (2/716)].
ويظهر من هذا الحديث أن بذل المال وإخراجه طاعة لله تعال،ى أمر شاق على النفس يحتاج إلى جهادها حتى تسمح به.
قال النووي رحمه الله: (فمعنى الحديث أن الشح غالب في حال الصحة، فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره، بخلاف من أشرف على الموت وأيس من الحياة ورأى مصير المال لغيره) [شرح النووي على صحيح مسلم (7/123)].
وقال الحافظ ابن حجر: (ولما كانت مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام مانع الشح دالاً على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة، كان ذلك أفضل من غيره) [فتح الباري: (3/285)].
وفي صحيح مسلم [ (1/203)]: (والصدقة برهان) وفي رواية للنسائي[(5/5)] (والزكاة برهان)
وفي شرح النووي على مسلم لهذا الحديث: (معناه: الصدقة حجة على إيمان فاعلها فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه. والله أعلم) [شرح النووي على مسلم (3/101)].
وقال ابن رجب: (فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان، وطيب النفس بها علامة على حلاوة الإيمان وطعمه) [جامع العلوم والحكم (ص19)].
وإذا عرف هذا علم أن من لم يجاهد نفسه حتى تسمح بإخراج جزء من ماله لله تعالى، فإنه لا يقدر على بذل نفسه في سبيل الله لأن بذل النفس أشق من بذل المال، فكيف ترضى نفس أن تتقدم لأسنة رماح الأعداء انتصاراً لدين الله ورفعاً لكلمته، وهي لا ترضى ببذل جزء من المال؟.
أثر الصوم في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
ولسنا في حاجة إلى ذكر أدلة فرضية الصيام، لأن ذلك معلوم من الدين بالضرورة، ويكفي أن يعلم المسلم أنه أحد الأركان الذي بني عليها الإسلام.
والمقصود هنا بيان أثر الصيام في تزكية النفس وتطهيرها، وكونها أهلا لطاعة الله والبذل في سبيله، لقد بين الله سبحانه وتعالى أن القرآن العظيم، لا ينتفع به ويهتدي بهداه إلا المتقون.
فهو-وإن نزل للدعوة الناس كلهم إلى طاعة الله وتقواه-لا يهتدي به في الواقع إلا أهل التقوى، كما قال تعالى: ((الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)) [البقرة: -2]
ومن أهم العبادات التي تكسب المؤمن تقوى الله الصيام، وبخاصة صيام شهر رمضان، كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) [البقرة: 183]
وإنما يثمر الصيام التقوى، لما فيه من إلزام الإنسان نفسه بطاعة ربه في اجتناب المباحات التي أصبحت محرمة عليه، بعد شروعه في الصيام. وحقيقة التقوى، امتثال أمر الله بفعله، وامتثال نهية باجتنابه
.......
والإنسان عندما يدع ما تشتهيه نفسه من المباحات والطيبات، طاعة لربه سبحانه، يكون أكثر بعدا عما هو محرم عليه في الأصل، وأشد حرصا على فعل ما أمره الله به.
أقوال العلماء في حكمة فرضية الصوم وأثره في حياة المسلم:
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين، من هذه الأمة، وآمرا لهم بالصيام، وه الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنية خالصة لله عز وجل، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة- إلى أن قال-في قوله تعالى ((لعلكم تتقون)): لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)" [تفسير القرآن العظيم01/213)]
..........
وقال في تفسير المنار على قوله تعالى: ((لعلكم تتقون)): "هذا تعليل لكتابة الصيام، ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله تعالى، بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة، امتثالا لأمره، واحتسابا للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها، فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها، فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام نصف الصبر) رواه ابن ماجه، وصححه في الجامع الصغير) [تفسير المنار: (2/145)]
وقال سيد قطب، رحمه الله في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)): "
وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم... إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله وإيثارا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب، من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس بالبال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أداتها وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم، هدفا وضيئا يتجهون إليه عن كريق الصيام" [في ظلال القرآن: (2/168)]
وهنا نلفت النظر إلى الارتباط بين قوله تعالى في أول سورة البقرة: ((هدى للمتقين)) [الآية: 2] وبين قوله تعالى في أول آيات الصيام: ((لعلكم تتقون)) وقوله في آخر هذه الآيات: ((ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)) [البقرة: 185]
فقوله تعالى: (( هدى للمتقين)) بين فيها أن هداية هذا القرآن، لا ينالها حقيقة إلا أهل التقوى.
وقوله: (( لعلكم تتقون)) بين فيها أن الصيام طريق من الطرق الموصلة إلى التقوى.
وقوله تعالى: ((ولتكبروا الله على ما هداكم...)) بين فيها أن الهداية قد حصلت للصائمين الذين منحهم الله بصومهم التقوى، والمتقي المهتدي جدير بأن يشكر الله على منحه التقوى والهداية: ((ولعلكم تشكرون))
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: ((لعلكم تشكرون)) : "أي إذا قمتم بما أمركم الله، من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك" [تفسير القرآن العظيم: (1/218)]
وقال سيد قطب رحمه الله في ظلال هذه الآية ((ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)): "فهذه غاية من غايات الفريضة، أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم، وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام، اكثر من كل فترة، وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها.
وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا، ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة، ولتفيء قلوبه إليه بهذه الطاعة، كما قال لهم في مطلع الحديث: ((لعلكم تتقون))
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقا على الأبدان والنفوس، وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير" [في ظلال القرآن: (2/172)]
ولما كانت النفس البشرية تتوق إلى تناول ما تشتهيه، وتنفر عن ترك ذلك، فإن من أعظم ما يزكيها ويطوعها لطاعة ربه، أن تُدَرَّب على الصبر عن تناول الطيبات التي أباحها الله تعالى لها، إذا أمرها بتركها.
ومن أعظم شهوات النفس الطعام والشراب والجماع، وقد حرم الله على المؤمن هذه الأمور المهمة في حياته كلها، في نهار شهر رمضان بأكمله، فإذا تركها مخلصا لله في تلك المدة من الزمن، فإنه بذلك يكون جديرا بأن يكون من المجاهدين لأعدائه الملازمين، وهم نفسه الأمارة بالسوء، والهوى المردي، والشيطان الرجيم.
والذي ينجح في هذا الجهاد، يسهل عليه الجهاد الخاص، وهو قتال عدوه الخارجي من اليهود والنصارى والوثنيين، ومن لم ينجح في جهاد عدوه الملازم، يصعب عليه هذا الجهاد، لأن الذي لم يروض نفسه على طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، فيما هو أخف عليه، كالصيام مثلا، فمن الصعب عليه أن يقف في الصف لمقارعة الأعداء يستقبل بصدره ونحره قذائف المدافع ورصاص البنادق، وأطراف الرماح وحد السيف.
وإن صبر في من لم يجاهد نفسه بطاعة الله على قتال عدوه، فالغالب أنه لا يصبر مجاهدا الجهاد الشرعي، وهو الجهاد في سبيل الله، وإنما يقاتل رياء وسمعة، ليقال عنه: إنه شجاع، أو للحصول على مغنم.
وتأمل الأسلوب الذي فرض الله به القتال على المسلمين، تجده نفس الأسلوب الذي فرض الله به الصيام، إلا أنه بين في الصيام أنه أداة لتقواه، وبين في فريضة القتال، انه فرضه عليهم وهو كره لهم، ومعلوم أن التقوى هي التي تعين المسلم على الصبر على ما تكرهه نفسه، وهو الجهاد في سبل الله، قال تعالى: ((كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شبئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون)) [البقرة: 216]
أثر الحج في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
والحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، قال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين). [آل عمران: 97]. وسبقت الأحاديث الدالة على كونه خامس أركان الإسلام.
أما أثر الحج في تزكية النفس وتطهيرها، فإنه يؤدي بها إلى تقوى الله كالصيام، مع شيء من التفصيل في امتثال الأوامر المقربة إلى الله، واجتناب النواهي المبعدة عنه سبحانه، فالحاج مأمور بذكر الله سبحانه، إذ يدخل في الإحرام بقوله: (لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك) [البخاري رقم1549 ـ فتح الباري (3/408) ومسلم (2/841)].
وهو مأمور بالمداومة على هذا الذكر وغيره أثناء إحرامه [راجع البخاري رقم1670، فتح الباري (3/519) ومسلم (2/931)].
وله في كل نسك يؤديه، ذكر عام أو خاص، كما أنه يدرب النفس على طاعة الله تعالى بعدم تعاطي بعض الطيبات والمباحات في الأصل، كالجماع وما يؤدي إليه والألبسة المعتادة غير ثوبي الإحرام ـ بالنسبة للرجال ـ والطيب، وتغطيته الرأس، وقص الشعر ونتف الإبط وتقليم الأظافر، ونحو ذلك من المحظورات التي وردت بها النصوص.
كذلك قتل صيد البر وأكله ـ مطلقاً أو إذا صيد من أجله ولو صاده غيره.
فالحاج مأمور بترك الرفث وهو الجماع وما يتصل به ـ فتكون زوجه معه في سفره يجمعهما مكان واحد وقت النوم ووقت اليقظة فلا يمد يده إليها إلا لحاجة كما يمد يده لعامة الناس، ولا يتكلم معها بكلام تشم منه رائحة التعريض، بما كان يباح له التصريح به.
كما أنه مأمور بترك الفسوق من قول أو فعل ـ وهو مأمور بذلك كل وقت ولكنه في الحج أعظم وآكد ـ وهو مأمور بترك الجدال، إلا إذا دعت الحاجة لمصلحة.
وبذلك يكون الحاج قد تزود من زاد التقوى، كما قال تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) [البقرة: 197].
والحاج أهل لهداية الله بعد أن تزود من تقواه: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين) [البقرة: 198].
وزاد التقوى الذي يمنحه الله للحاج من حجه، يزيده تقرباً إلى الله ودواماً على طاعته، حتى تصبح طاعته لربه أحب إليه من أي محبوب آخر، ولذلك لا يفتأ ذاكراً له: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذركم آباءكم أو أشد ذكراً) [البقرة:200].
والحاج يؤدي ما أمر به من الأنساك في الحج ـ عبادة لربه ـ وهو يعلم أن كل ذلك لا ينفعه عند الله، إلا إذا اتجه بقلبه وقالبه إلى الله، وامتلأ قلبه بتقوى الله وخشيته: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) [الحج:37].
ويذهب الحاج إلى بيت الله الحرام لتأدية مناسك الحج، وقد أثقلته الذنوب والمعاصي ورانت على قلبه محبة الشهوات، فيزكيه حجه ويطهره، ويدرب نفسه على طاعة ربه في فترة زمنية معينة، فيترك ما نهاه الله عنه من الرفث والفسوق، فيعود وقد غفر الله له حتى غدا مثل من ولد لتوه لا ذنب له ولا إثم، بل طاعة وأجر وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه).
وكما في حديثه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاءاً إلى الجنة) [البخاري رقم 1773 ـ فتح الباري (3/597) ورقم 1820 فتح الباري (4/20) ومسلم (2/983)].
ولما كان الحج فيه مشاق النفقة والسفر والتعرض للمخاطر المتعددة، كالخوف والجوع والعطش والحر والبرد والزحام وغير ذلك، جعله صلى الله عليه وسلم للنساء بمنزلة الجهاد للرجال، كما في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: (لا، ولَكُنَّ أفضلُ الجهاد حجٌ مبرور) [البخاري رقم الحديث 1520 ، فتح الباري (3/381)].
قال الحافظ: (وسماه جهاداً لما فيه من مجاهد النفس) [فتح الباري (3/382)].
والذي وفقه الله تعالى لأداء مناسك الحج يعلم سبب تسمية الرسول صلى الله عليه وسلم الحج جهادا،ً فإن سفر الحج فيه شبه كبير بسفر الجهاد، لما يلتزم به الحاج من التقشف، ولما يقتضيه أداءه من الإلتزام بالنظام، والسير مع عامة الناس في وقت واحد، وفي مكان واحد، لا سيما يوم التروية وما بعده، إذ ترى الناس يصعدون إلى منىً في وقت واحد، وينزلون بها لأخذ أماكنهم ويصلون بها الصلوات الخمس: الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم الفجر مستعدين لمغادرتها صبيحة اليوم التاسع كلهم إلى عرفات.
وهناك يقفون كلهم بعد أن يصلوا الظهر والعصر قصراً وجمع تقديم في وقت واحد، ثم إذا غربت الشمس تحركوا جميعاً نحو مزدلفة ينزلون بها جميعاً، ويصلون بها المغرب والعشاء جمع تأخير قبل أن ينزلوا متاعهم، ثم ينامون مبكرين استعداداً لأعمال يوم النحر.
فإذا أصبحوا صلوا الفجر ودعوا الله وذكروه حتى يسفروا ثم يتجهون جميعاً إلى منىً فيبدءون برمي جمرة العقبة ضحى يوم النحر، ثم يذهب من عليه نحر لينحر ثم يحلقون ثم يطوفون طواف الإفاضة ثم يعودون إلى منىً للبقاء فيها ذاكرين الله تعالى رامين الجمرات في اليومين التاليين ليوم النحر أو الثلاثة.
ثم يتجهون إلى بيت الله لطواف الوداع، وفي التزامهم كلهم بذلك النظام ما فيه من المشقة والزحام وغير ذلك، والحاج الذي يقوم بذلك كله مع التزامه بطاعة الله في نيته وفي سلوكه، لا يعود إلا وقد هذبت نفسه وألفت الطاعة والجندية الإسلامية.
ولعل ذلك يبين شيئاً من حكمة ذكر الجهاد في سبيل الله بعد ذكر الآيات المتعلقة بالحج كما قال تعالى: ((إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز)) [الحج: 38 ـ40].
الحج والأقصى الأسير!
إن حجاج بيت الله الحرام ليبذلون المال، ويعدون العدة للسفر،ويحرمون، ويلبون-والتلبية عهد على طاعة الله ورسوله-ويطوفون ويسعون، ويقومون بكل مناسك الحج _ومنها ركنه الأعظم الوقوف بعرفات.
ثم يؤدون ركن الحج العظيم-طواف الإفاضة- ويزورون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض الأماكن التي تذكرهم برجال الجهاد، كالبقيع، وأحد، والخندق....
فهل يتذكرون صنو المسجدين العظيمين وثالثهما: ذلك المسجد الأسير " الأقصى" الذي يدنسه أبناء القردة والخنازير.
فهل تذكرتم يا حجاج بيت الله الحرام، أبناء الصحابة والتابعين في الأرض المباركة، الذين يقذفهم اليهود بالقنابل والرشاشات والمدافع، والطائرات والدبابات، ويهدمون منازلهم ويخرجونهم منها في العراء، ويحاصرونهم في قِطَع من الأرض، حتى لا يقدر القريب أن يزور قريبه، ويمنعون عنهم وصول الغذاء والدواء والملبس والمشرب؟
هل تذكرتم قبلتكم الأولى، ومسرى نبيكم صلى الله عليه وسلم ومعراجه؟
هل تذكرتم أن من أهم ثمرات حج بيت الله الحرام أن الله قد أذن للذين يقاتلهم أعداء الله بقتال الأعداء؟ وأن من ثمرات الحج دفع العدوان عن المساجد والمعابد.
اقرؤوا بتدبر وتفكروا في هذه الآيات الواردة في الحج، وكيف ختمت بقتال المسلمين من يقاتلهم ظلما وعدوانا، وبدفع المسلمين الاعتداء على المساجد والمعابد من أن تهدم أو تمس بسوء.
اقرؤوا هذه الآيات، واصبروا على قراءتها تقبل الله حجكم، ورزقكم الجهاد في سبيل الله لرد العدوان عن أنفسكم وإخوانكم، ودفع العدو عن تدنيس المساجد وتهديمها، وبخاصة المسجد الأقصى الأسير الذي دنسه أرذل خلق الله في الأرض "اليهود" فدفع العدوان عن إخوانكم، ودفعه عن مساجدكم ينبغي أن يكون من ثمرات حجكم:
بدأت الآيات المتعلقة بالحج من الآية السادسة والعشرين من سورة الحج، وهي قوله:
((وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود)) (26)
وانتهت بالآية السابعة والثلاثين، وهي قوله تعالى:
((لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين)) (37)
وأتبعها تعالى بقوله :
((إن الله يدافع عن الذين ءامنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور(38) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير(39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)) (40)
وإنه ليبدو لي من ذكر هذه الآيات الأخيرة بعد آيات الحج، أن من أهم آثار الحج في حياة المسلمين، أن يقاتلوا من يقاتلهم من الأعداء، وأن يحموا بيوت الله من عدوان من أراد إفسادها ماديا أو معنويا، لأن في مناسك الحج تدريبا على التعب والصبر والنظام والانضباط، وبذل المال، وشد الرحال، وأهم من ذلك كله التزكية الإيمانية والطاعة لله والإخلاص له، وفي ذلك كله شبه بمشاق الجهاد ونظامه ....
هل تذكرتم أن الجبن عن دخول الأرض المقدسة لإخراج العدو منها، هو من صفات اليهود، وليس من صفات المسلمين؟!
فقد حكى الله موقف اليهود عندما أمرهم موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة في هذه الآيات، وهي واضحة في الدلالة على جبنهم:
((وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين(20) ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين(21) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون)) [المائدة:22]
هاهو الأقصى الحزين يذكرنا، إن لم نكن قد تذكرنا. فهل من سامع للتذكير، وهل من مجيب لمستغيث؟؟؟!!!
اللهم امنح حجاج بيتك الحرام والمسلمين في الأرض قائدا يؤمهم في المسجد الحرام، ومسجد نبيك الكريم، ثم يقودهم تحت رايتك لتحرير بيتك الثالث: "المسجد الأقصى" من أعدائك اليهود، الذين احتلوه وأحرقوه ودنسوه، وداسوا كرامة أهله، ليؤمهم فيه، كما أمهم في صنويه: البيت الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. يارب العالمين، يا أرحم الراحمين.
لقد فتح القدس في صدر الإسلام عمر، وحررها من الصليبيين صلاح الدين، فهل سيجد من قادة المسلمين السياسيين والعسكريين شبيها لهما أو لأحدهما؟
لعل الله يأتي باليوم الذي ينطلق فيه حجاج بيت الله الحرام من أول المساجد الثلاثة بعد أداء مناسكهم، لتحرير بيته الثالث "المسجد الأقصى" ليتحقيق هذا الترتيب الرباني في كتابه في واقع المسلمين اللهم آمين.
وبهذا يظهر أثر الحج في تزكية النفس وتطهيرها وتضحيتها وأهليتها لتكون مجاهدة في سبيل الله.
أثر صلة الرحم في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
المقصود بالرحم ـ هنا ـ القرابة، والمقصود بالصلة البر والإحسان، أي البر بذوي القربى والإحسان إليهم، وهذه الصلة تتفاوت درجات وجوبها بحسب درجة ذي القربى قرباً وبعداً، والصلة قد تكون صلة بتعليم ذوي القربى أمور دينهم التي يجهلونها ـ لا سيما الواجبات العينية ـ وقد تكون بالإحسان المادي إليهم أو ما شابه ذلك.
والإنسان الذي يقطع رحمه ولا يصلها، عاصٍ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، مرتكب لما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، قاطع ما أمر الله به أن يوصل، وقد ذمه الله تعالى ذماً شديداً، وأوجب عليه لعنته، وجعله معرضاً لطمس بصيرته، كما قال تعالى: ((فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)) [محمد: 22 ـ23].
وقد أخذت الرحم وعداً من الله تعالى ـ والله لا يخلف وعده ـ بأن يصل من وصلها ويقطع من قطعها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن، فقال لها: مه قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعكِ؟ قالت: بلى يا رب. قال: فذاك) [البخاري رقم4830 فتح الباري (8/579) ومسلم (4/1980)].
وفي حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا لا يدخل الجنة قاطع) [البخاري رقم 5984 فتح الباري (10/415) ومسلم (4/1981)].
والنصوص في الواردة في صلة الرحم والنهي عن قطعها كثيرة منها العام، كما مضى ومنها الخاص بنوع من القرابة، (كالوالدين) وغيرهما.
والمقصود أن الذي لا يجاهد نفسه على صلة أرحامه، ليس أهلاً للجهاد في سبيل الله، لأنه عاصٍ لله ولرسوله قاطع لرحمه، وقد يكون سبباً في منع الله نصر المؤمنين على أعدائهم، وقد يكون غير قادر على الصبر والمصابرة أمام الأعداء.
لهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من استأذنه في الجهاد معه دون أن يستأذن والديه، أن يرجع إليهما ويجاهد في طاعتهما والقيام بحقوقهما، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: جاء رجل النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: (أحي والداك) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد) [البخاري رقم 3004 فتح الباري (6/140) ومسلم (4/1975)].
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: (هذا كله دليل لعظم فضيلة برهما وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قاله العلماء أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين، أو بإذن المسلم منهما.. هذا كله إذا لم يحضر الصف ويتعين القتال، وإلا فحيئذٍ يجوز بغير إذن، وأجمع العلماء على الأمر ببر الوالدين وأن عقوقهما حرام من الكبائر. [شرح النووي على صحيح مسلم (16/104)].
وقد يعرض عاق والديه نفسه لغضبهما عليه ودعائهما، ودعوة المظلوم مستجابة ولو كان كافراً، والعدل واجب ولو لكافر، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً، فإنه ليس دونها حجاب) [أحمد في المسند (3/153) والأحاديث الصحيحة للألباني (2/407)].
وقال تعالى في وجوب العدل ـ ولو لمن يبغضهم المؤمن في الله وهم الكفار ـ: ((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)) [المائدة: 8].
ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنه بقصة جريج الراهب ـ وهو رجل من بني إسرائيل _محذراً إياهم من عقوق الوالدين، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج، كان يصلي جاءته أمه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات.
وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه.
فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام، قال: الراعي، قالوا نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين) [البخاري رقم 3436 فتح الباري (6/476) ومسلم (4/1976)].
أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة من أهم قواعد الإسلام التي لا قوام لأمته إلا بها، وهو عنوان فلاح المسلمين وفوزهم ومنطلق أهليتهم لقيادة البشرية، فإذا حققوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أنفسهم كانوا أهلاً لتحقيقه في سواهم من أمم الكفر والضلال، وإلا كانوا أهلاً لغضب الله وسخطه ولعنته، ومن كان معرضاً لسخط الله وعظيم عقابه، كيف يكون جديراً بالكون في صف المجاهدين في سبيل الله.
فالمؤمنون لا ينجيهم من الخسران أن يقوم كل واحد منهم بما كلفه الله إياه، دون أن يتواصى مع غيره من إخوانه المؤمنين بالحق والصبر، قال تعالى: ((والعصر إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين أمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)) [العصر].
وكيف يقف الصف المخلخل الذي يبتعد أفراده عن الله بترك طاعته والولوغ في مستنقع معاصيه، ولا يوجد فيه من يغضب لله فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟
كيف يقف هؤلاء في هذا الصف في وجه عدوهم مجاهدين في سبيل ربهم، ولم تتوافر فيهم صفات عباد الله المؤمنين الذين قال تعالى عنهم: : ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)) [التوبة: 71].
وهم الذين قصر الله الفلاح عليهم، كما قال: (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون)) [آل عمران: 104].
وأوضح سبحانه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان به هي موجبات قيادة هذه الأمة لغيرها من الأمم قال تعالى: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس؛ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله..)) [آل عمران: 110].
يظهر من هذا أن النصر على الأعداء لا يكون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الخيرية المذكورة لا تتم بدون موجباتها المذكورة بعدها.
وقد لعن الله بني إسرائيل الذين لم يتناهوا فيما بينهم عن المنكر، وإذا عملت هذه الأمة مثل عمل بني إسرائيل فحكمها حكم بني إسرائيل، قال تعالى: ((لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)) [المائدة: 78 ـ79]
ومما يدل على ذلك ما أورده ابن كثير في تفسير الآية، قال: (وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا شريح ـ وساق سنده إلى أن قال ـ : عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما وقعت بنوا إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم") قال يزيد وأحسبه قال: (في أسواقهم وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم). ((ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً) [تفسير القرآن العظيم ( 2/82 ـ 83 ) ].
والأمة التي يستشري فيها الشر والفساد مثل السفينة التي ألقي بها في بحر لجي لتمخر عبابه، وهي مخرقة تقذف أمواج البحر بمياهه بداخلها من تلك الخروق، فهل يقدر ربانها على قيادتها إلى شاطئ الأمان، وهل يستحق أهلها الذي ألقوها في ذلك البحر اللجي وهم يعلمون ما بها من خروق أن ينالوا النجاة، كيف الأمر لو كانت سليمة قادرة على مصارعة الأمواج فأرادت فئة من ركابها أن تخرقها وهي تمخر عباب البحر وسكت عنهم بقية الركاب؟
والجواب في الحديث الصحيح الذي رواه النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) [صحيح البخاري رقم الحديث 2493، فتح الباري (5/132)]. قال الحافظ بن حجر: (وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) [الفتح (5/296)]، فأثر القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفوز والقيادة للبشرية وأثر تركه الهلاك والخسران والذل.
بسم الله الرحمن الرحيم
جهاد النفس بملأ الفراغ بمنهج الله
الجهاد في سبيل الله (جهاد النفس-المحافظة على الفرائض)
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
فريضة الصلاة:
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج ، وصوم رمضان) [اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: (1/3)]
وفي حديث عمر بن الخطاب-المشهور بحديث جبريل-قال: "يا محمد أخبرني عن الإسلام؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا) قال: "صدقت..." [[مسلم: (1/37)]
وقد وردت نصوص القرآن التي توجب الصلاة بأساليب متنوعة:
منها الأمر بإقامتها، مثل قوله تعالى: ((وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون)) [الأنعام: 72]
ومنها الأمر بالمحافظة عليها، مثل قوله تعالى: ((حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)) [البقرة: 238]
ومنها ذم ووعيد من أضاعها وفرط في أدائها، كما قال تعالى: ((فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا)) [مريم: 59]
ومنها جعلها قرينة لبعض أصول الإيمان التي لا فلاح لمن لم يتصف بها، كما قال تعالى: ((الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)) البقرة: 1-5] وغير ذلك من الآيات التي لا يقصد هنا استقصاؤها.
أما أثر الصلاة في تزكية المسلم وتربيته، فهو من الأمور التي يمكن معرفته من النصوص الكثيرة، من الكتاب والسنة، ولكن العلم الحق بذلك الأثر، لا يؤتاه إلا من ذاقه حقا في نفسه، بإقامتها، كما كان يقيمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحافظ عليها كما كان يحافظ عليها، مع الإقبال على إليه وخشيته والإنابة إليه، وتدبر آياته وذكره فيها، فهي ركن من أركان فلاح المسلم، ولا فلاح له بدو نهاكما مضى في الآيات الأولى من سورة البقرة قريبا.
وكذلك قوله تعال: ((قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى.)) [سورة الأعلى: 14-15] فقد علق سبحانه الفلاح بتزكية النفس، وذكر ما يتزكى به المؤمن، وهما ذكر الله والصلاة.
كما ذكر الله تعالى الصلاة، على رأس صفات المؤمنين المفلحين، في الدنيا والآخرة، بذكر بعض صفاتها، وهو الخشوع فيها، وختم بها كذلك تلك الصفات، بذكر بعض صفاتها الأخرى، وهو المحافظة عليها، مبينا سبحانه آثارها في المقيم لها، ومنها الفلاح ووراثة الفردوس والخلود فيه.
كما قال تعالى: ((قد أفلح المؤمنون(1)الذين هم في صلاتهم خاشعون(2)والذين هم عن اللغو معرضون(3)والذين هم للزكاة فاعلون(4)والذين هم لفروجهم حافظون(5)إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين(6)فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون(7)والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون(8) والذين هم على صلواتهم يحافظون(9)أولئك هم الوارثون(10)الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون(11)) [المؤمنون: 1-11]
ويظهر من اكتناف ذكر الخشوع في الصلاة، وذكر المحافظة عليها، أن الصفات الحميدة التي ذكرت بينهما لا تصدر إلا من مقيم الصلاة، ومما يدل على ذلك ـ وهو من آثار إقامة الصلاة والمحافظة على كونها تنهي عن الفحشاء والمنكر _ قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر . والله يعلم ما تصنعون) [العنكبوت: 45] وهذه من أعظم علامات إقامة الصلاة كما أمر الله ومن أهم ثمارها وأثرها في تزكية نفس المسلم وتربيتها.
ومن آثارها أنها قرينة الصبر في استعانة المؤمن بها على طاعة الله واجتناب معصيته، كما قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) [البقرة: 45] وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) [البقرة: 153].
ومن آثار إقامة الصلاة أنها من أسباب الإحسان إلى الناس ولذلك تجد الإنفاق وإيتاء الزكاة مقترنين بها في أغلب أي القرآن، كقوله: (ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) [البقرة: 3].
وقوله: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) [الأنبياء: 73].
ولقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر الصلاة في تزكية النفس البشرية وتطهيرها من أدناس الشهوات والمعاصي فشبهها، في تكفير السيئات ومحو الخطايا، بنهر جارٍ بباب المسلم ـ وفي قرب النهر منه إغراء على كثرة الاغتسال والتطهر ـ وهو يغتسل فيه كل يوم خمس مرات فلا يبقى على جسمه شيء من الأوساخ.
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك؛ يبقى من درنه قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا". [البخاري: رقم528، فتح الباري: 2/11 ، ومسلم: 1/462].
ولا يزال المؤمن يزكي نفسه بالصلاة حتى تصبح ملجأ له، يستريح بها من الهموم والأتعاب كما في الحديث: (يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها) [أبو داود: 5/263، قال في عون المعبود: والحديث سكت عنه المنذري ـ 13/231 ، وذكر الحديث صاحب كشف الخفاء ـ 1/108 ـ ولم يزل عنه الإلباس].
وتتوق نفس المؤمن إلى الطيبات التي أحلها الله له فيحبها، ولكن عينه لا تقر إلا عندما يقف أمام ربه مستقبلاً القبلة مكبراً خاشعاً في صلاته، كما قال صلى الله عليه وسلم: "حبب إليَّ من ديناكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة" [الجامع الصغير ورمز لمن أخرجه بـ(ح م ، ن ، ك ، هـ ق) ولدرجته ب ، ح أي حسن ، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته، وقال: صحيح3/87].
والنفس البشرية التي يجاهدها صاحبها حتى تصل إلى هذه الدرجة، فلا ترتاح إلا بطاعة الله تعالى ولا تقر عينه، إلا في مناجاة ربه والتقرب إليه، جديرة أن تكون نفس من يجاهد في سبيل الله جعلنا الله ممن يصل إلى تلك الدرجة أو يقرب منها.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفذ أمر الله سبحانه بالاستعانة بالصلاة فكان إذا نزل به ما يهمه لجأ إليها مستعيناً بها كما في حديث حذيفة الذي رواه أبو داود: (كان إذا حزبه أمر صلى) [أبو داود (2/78) صحيح الجامع الصغير للألباني (4/215) وقال: (حسن)]. وهذا أمر زائد على الصلاة المفروضة لكنه يظهر تعلق المؤمن بها تعلقاً يجعله جديراً بأن يكون من المجاهدين في سبيل الله.
أثر الزكاة في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
سبق ذكر بعض النصوص الدالة على أن الزكاة ركن الإسلام الثالث، ويكفي ذلك في إثبات وجوب أدائها.
أما أثر أدائها في تزكية المسلم وتطهيره من الذنوب والمعاصي لتسمو نفسه حتى يصبح أهلاً للانخراط في سلك المجاهدين في سبيل الله فمنها ما يأتي:
قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) [التوبة: 103].
وتظهر آثار الزكاة في النفس البشرية من هذه الآية، حيث جعل الله تعالى الزكاة سبباً في التزكية والتطهير لتلك النفس التي كان من أهداف بعث الله تعالى رسوله إلى الناس تزكيته إياهم وتطهيرهم من كل دنس في حياتهم كلها، كما قال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [الجمعة: 2].
قال سيد قطب في قوله : "(ويزكيهم): وإنها لتزكية، وإنه لتطهير، ذلك الذي كان يأخذهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ تطهير للضمير والشعور، وتطهير للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية، تطهير ترتفع به النفس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح، ويرتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني، ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال..
إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة، ولحياة السريرة وحياة الواقع، تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها، وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه ويتعامل مع الملأ الأعلى، ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم) [في ظلال القرآن: (28/3565)].
وإنما كانت الزكاة سبباً في التزكية والتطهير؛ لأنها دليل على صدق إيمان العبد الذي تغلب على شح نفسه، فأخرج من ماله الذي تعب في جمعه ما أمره الله تعالى به، ولأنها دليل على أن المؤمن الذي أداها قد فاز في المعركة مع عدوه الذي يخوفه من الفقر ويأمره بالفحشاء، لنجاحه في طاعة ربه الذي أمره بالإنفاق ووعده بالفضل الجزيل من عنده، كما قال تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم) [البقرة:268].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أي الصدقة أعظم أجراً؟) قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم) قلت: (لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان) [البخاري: رقم1419 فتح الباري (3/284) ومسلم (2/716)].
ويظهر من هذا الحديث أن بذل المال وإخراجه طاعة لله تعال،ى أمر شاق على النفس يحتاج إلى جهادها حتى تسمح به.
قال النووي رحمه الله: (فمعنى الحديث أن الشح غالب في حال الصحة، فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره، بخلاف من أشرف على الموت وأيس من الحياة ورأى مصير المال لغيره) [شرح النووي على صحيح مسلم (7/123)].
وقال الحافظ ابن حجر: (ولما كانت مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام مانع الشح دالاً على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة، كان ذلك أفضل من غيره) [فتح الباري: (3/285)].
وفي صحيح مسلم [ (1/203)]: (والصدقة برهان) وفي رواية للنسائي[(5/5)] (والزكاة برهان)
وفي شرح النووي على مسلم لهذا الحديث: (معناه: الصدقة حجة على إيمان فاعلها فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه. والله أعلم) [شرح النووي على مسلم (3/101)].
وقال ابن رجب: (فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان، وطيب النفس بها علامة على حلاوة الإيمان وطعمه) [جامع العلوم والحكم (ص19)].
وإذا عرف هذا علم أن من لم يجاهد نفسه حتى تسمح بإخراج جزء من ماله لله تعالى، فإنه لا يقدر على بذل نفسه في سبيل الله لأن بذل النفس أشق من بذل المال، فكيف ترضى نفس أن تتقدم لأسنة رماح الأعداء انتصاراً لدين الله ورفعاً لكلمته، وهي لا ترضى ببذل جزء من المال؟.
أثر الصوم في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
ولسنا في حاجة إلى ذكر أدلة فرضية الصيام، لأن ذلك معلوم من الدين بالضرورة، ويكفي أن يعلم المسلم أنه أحد الأركان الذي بني عليها الإسلام.
والمقصود هنا بيان أثر الصيام في تزكية النفس وتطهيرها، وكونها أهلا لطاعة الله والبذل في سبيله، لقد بين الله سبحانه وتعالى أن القرآن العظيم، لا ينتفع به ويهتدي بهداه إلا المتقون.
فهو-وإن نزل للدعوة الناس كلهم إلى طاعة الله وتقواه-لا يهتدي به في الواقع إلا أهل التقوى، كما قال تعالى: ((الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)) [البقرة: -2]
ومن أهم العبادات التي تكسب المؤمن تقوى الله الصيام، وبخاصة صيام شهر رمضان، كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) [البقرة: 183]
وإنما يثمر الصيام التقوى، لما فيه من إلزام الإنسان نفسه بطاعة ربه في اجتناب المباحات التي أصبحت محرمة عليه، بعد شروعه في الصيام. وحقيقة التقوى، امتثال أمر الله بفعله، وامتثال نهية باجتنابه
.......
والإنسان عندما يدع ما تشتهيه نفسه من المباحات والطيبات، طاعة لربه سبحانه، يكون أكثر بعدا عما هو محرم عليه في الأصل، وأشد حرصا على فعل ما أمره الله به.
أقوال العلماء في حكمة فرضية الصوم وأثره في حياة المسلم:
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين، من هذه الأمة، وآمرا لهم بالصيام، وه الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنية خالصة لله عز وجل، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة- إلى أن قال-في قوله تعالى ((لعلكم تتقون)): لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)" [تفسير القرآن العظيم01/213)]
..........
وقال في تفسير المنار على قوله تعالى: ((لعلكم تتقون)): "هذا تعليل لكتابة الصيام، ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله تعالى، بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة، امتثالا لأمره، واحتسابا للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها، فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها، فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام نصف الصبر) رواه ابن ماجه، وصححه في الجامع الصغير) [تفسير المنار: (2/145)]
وقال سيد قطب، رحمه الله في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)): "
وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم... إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله وإيثارا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب، من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس بالبال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أداتها وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم، هدفا وضيئا يتجهون إليه عن كريق الصيام" [في ظلال القرآن: (2/168)]
وهنا نلفت النظر إلى الارتباط بين قوله تعالى في أول سورة البقرة: ((هدى للمتقين)) [الآية: 2] وبين قوله تعالى في أول آيات الصيام: ((لعلكم تتقون)) وقوله في آخر هذه الآيات: ((ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)) [البقرة: 185]
فقوله تعالى: (( هدى للمتقين)) بين فيها أن هداية هذا القرآن، لا ينالها حقيقة إلا أهل التقوى.
وقوله: (( لعلكم تتقون)) بين فيها أن الصيام طريق من الطرق الموصلة إلى التقوى.
وقوله تعالى: ((ولتكبروا الله على ما هداكم...)) بين فيها أن الهداية قد حصلت للصائمين الذين منحهم الله بصومهم التقوى، والمتقي المهتدي جدير بأن يشكر الله على منحه التقوى والهداية: ((ولعلكم تشكرون))
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: ((لعلكم تشكرون)) : "أي إذا قمتم بما أمركم الله، من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك" [تفسير القرآن العظيم: (1/218)]
وقال سيد قطب رحمه الله في ظلال هذه الآية ((ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)): "فهذه غاية من غايات الفريضة، أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم، وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام، اكثر من كل فترة، وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها.
وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا، ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة، ولتفيء قلوبه إليه بهذه الطاعة، كما قال لهم في مطلع الحديث: ((لعلكم تتقون))
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقا على الأبدان والنفوس، وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير" [في ظلال القرآن: (2/172)]
ولما كانت النفس البشرية تتوق إلى تناول ما تشتهيه، وتنفر عن ترك ذلك، فإن من أعظم ما يزكيها ويطوعها لطاعة ربه، أن تُدَرَّب على الصبر عن تناول الطيبات التي أباحها الله تعالى لها، إذا أمرها بتركها.
ومن أعظم شهوات النفس الطعام والشراب والجماع، وقد حرم الله على المؤمن هذه الأمور المهمة في حياته كلها، في نهار شهر رمضان بأكمله، فإذا تركها مخلصا لله في تلك المدة من الزمن، فإنه بذلك يكون جديرا بأن يكون من المجاهدين لأعدائه الملازمين، وهم نفسه الأمارة بالسوء، والهوى المردي، والشيطان الرجيم.
والذي ينجح في هذا الجهاد، يسهل عليه الجهاد الخاص، وهو قتال عدوه الخارجي من اليهود والنصارى والوثنيين، ومن لم ينجح في جهاد عدوه الملازم، يصعب عليه هذا الجهاد، لأن الذي لم يروض نفسه على طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، فيما هو أخف عليه، كالصيام مثلا، فمن الصعب عليه أن يقف في الصف لمقارعة الأعداء يستقبل بصدره ونحره قذائف المدافع ورصاص البنادق، وأطراف الرماح وحد السيف.
وإن صبر في من لم يجاهد نفسه بطاعة الله على قتال عدوه، فالغالب أنه لا يصبر مجاهدا الجهاد الشرعي، وهو الجهاد في سبيل الله، وإنما يقاتل رياء وسمعة، ليقال عنه: إنه شجاع، أو للحصول على مغنم.
وتأمل الأسلوب الذي فرض الله به القتال على المسلمين، تجده نفس الأسلوب الذي فرض الله به الصيام، إلا أنه بين في الصيام أنه أداة لتقواه، وبين في فريضة القتال، انه فرضه عليهم وهو كره لهم، ومعلوم أن التقوى هي التي تعين المسلم على الصبر على ما تكرهه نفسه، وهو الجهاد في سبل الله، قال تعالى: ((كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شبئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون)) [البقرة: 216]
أثر الحج في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
والحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، قال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين). [آل عمران: 97]. وسبقت الأحاديث الدالة على كونه خامس أركان الإسلام.
أما أثر الحج في تزكية النفس وتطهيرها، فإنه يؤدي بها إلى تقوى الله كالصيام، مع شيء من التفصيل في امتثال الأوامر المقربة إلى الله، واجتناب النواهي المبعدة عنه سبحانه، فالحاج مأمور بذكر الله سبحانه، إذ يدخل في الإحرام بقوله: (لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك) [البخاري رقم1549 ـ فتح الباري (3/408) ومسلم (2/841)].
وهو مأمور بالمداومة على هذا الذكر وغيره أثناء إحرامه [راجع البخاري رقم1670، فتح الباري (3/519) ومسلم (2/931)].
وله في كل نسك يؤديه، ذكر عام أو خاص، كما أنه يدرب النفس على طاعة الله تعالى بعدم تعاطي بعض الطيبات والمباحات في الأصل، كالجماع وما يؤدي إليه والألبسة المعتادة غير ثوبي الإحرام ـ بالنسبة للرجال ـ والطيب، وتغطيته الرأس، وقص الشعر ونتف الإبط وتقليم الأظافر، ونحو ذلك من المحظورات التي وردت بها النصوص.
كذلك قتل صيد البر وأكله ـ مطلقاً أو إذا صيد من أجله ولو صاده غيره.
فالحاج مأمور بترك الرفث وهو الجماع وما يتصل به ـ فتكون زوجه معه في سفره يجمعهما مكان واحد وقت النوم ووقت اليقظة فلا يمد يده إليها إلا لحاجة كما يمد يده لعامة الناس، ولا يتكلم معها بكلام تشم منه رائحة التعريض، بما كان يباح له التصريح به.
كما أنه مأمور بترك الفسوق من قول أو فعل ـ وهو مأمور بذلك كل وقت ولكنه في الحج أعظم وآكد ـ وهو مأمور بترك الجدال، إلا إذا دعت الحاجة لمصلحة.
وبذلك يكون الحاج قد تزود من زاد التقوى، كما قال تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) [البقرة: 197].
والحاج أهل لهداية الله بعد أن تزود من تقواه: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين) [البقرة: 198].
وزاد التقوى الذي يمنحه الله للحاج من حجه، يزيده تقرباً إلى الله ودواماً على طاعته، حتى تصبح طاعته لربه أحب إليه من أي محبوب آخر، ولذلك لا يفتأ ذاكراً له: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذركم آباءكم أو أشد ذكراً) [البقرة:200].
والحاج يؤدي ما أمر به من الأنساك في الحج ـ عبادة لربه ـ وهو يعلم أن كل ذلك لا ينفعه عند الله، إلا إذا اتجه بقلبه وقالبه إلى الله، وامتلأ قلبه بتقوى الله وخشيته: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) [الحج:37].
ويذهب الحاج إلى بيت الله الحرام لتأدية مناسك الحج، وقد أثقلته الذنوب والمعاصي ورانت على قلبه محبة الشهوات، فيزكيه حجه ويطهره، ويدرب نفسه على طاعة ربه في فترة زمنية معينة، فيترك ما نهاه الله عنه من الرفث والفسوق، فيعود وقد غفر الله له حتى غدا مثل من ولد لتوه لا ذنب له ولا إثم، بل طاعة وأجر وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه).
وكما في حديثه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاءاً إلى الجنة) [البخاري رقم 1773 ـ فتح الباري (3/597) ورقم 1820 فتح الباري (4/20) ومسلم (2/983)].
ولما كان الحج فيه مشاق النفقة والسفر والتعرض للمخاطر المتعددة، كالخوف والجوع والعطش والحر والبرد والزحام وغير ذلك، جعله صلى الله عليه وسلم للنساء بمنزلة الجهاد للرجال، كما في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: (لا، ولَكُنَّ أفضلُ الجهاد حجٌ مبرور) [البخاري رقم الحديث 1520 ، فتح الباري (3/381)].
قال الحافظ: (وسماه جهاداً لما فيه من مجاهد النفس) [فتح الباري (3/382)].
والذي وفقه الله تعالى لأداء مناسك الحج يعلم سبب تسمية الرسول صلى الله عليه وسلم الحج جهادا،ً فإن سفر الحج فيه شبه كبير بسفر الجهاد، لما يلتزم به الحاج من التقشف، ولما يقتضيه أداءه من الإلتزام بالنظام، والسير مع عامة الناس في وقت واحد، وفي مكان واحد، لا سيما يوم التروية وما بعده، إذ ترى الناس يصعدون إلى منىً في وقت واحد، وينزلون بها لأخذ أماكنهم ويصلون بها الصلوات الخمس: الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم الفجر مستعدين لمغادرتها صبيحة اليوم التاسع كلهم إلى عرفات.
وهناك يقفون كلهم بعد أن يصلوا الظهر والعصر قصراً وجمع تقديم في وقت واحد، ثم إذا غربت الشمس تحركوا جميعاً نحو مزدلفة ينزلون بها جميعاً، ويصلون بها المغرب والعشاء جمع تأخير قبل أن ينزلوا متاعهم، ثم ينامون مبكرين استعداداً لأعمال يوم النحر.
فإذا أصبحوا صلوا الفجر ودعوا الله وذكروه حتى يسفروا ثم يتجهون جميعاً إلى منىً فيبدءون برمي جمرة العقبة ضحى يوم النحر، ثم يذهب من عليه نحر لينحر ثم يحلقون ثم يطوفون طواف الإفاضة ثم يعودون إلى منىً للبقاء فيها ذاكرين الله تعالى رامين الجمرات في اليومين التاليين ليوم النحر أو الثلاثة.
ثم يتجهون إلى بيت الله لطواف الوداع، وفي التزامهم كلهم بذلك النظام ما فيه من المشقة والزحام وغير ذلك، والحاج الذي يقوم بذلك كله مع التزامه بطاعة الله في نيته وفي سلوكه، لا يعود إلا وقد هذبت نفسه وألفت الطاعة والجندية الإسلامية.
ولعل ذلك يبين شيئاً من حكمة ذكر الجهاد في سبيل الله بعد ذكر الآيات المتعلقة بالحج كما قال تعالى: ((إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز)) [الحج: 38 ـ40].
الحج والأقصى الأسير!
إن حجاج بيت الله الحرام ليبذلون المال، ويعدون العدة للسفر،ويحرمون، ويلبون-والتلبية عهد على طاعة الله ورسوله-ويطوفون ويسعون، ويقومون بكل مناسك الحج _ومنها ركنه الأعظم الوقوف بعرفات.
ثم يؤدون ركن الحج العظيم-طواف الإفاضة- ويزورون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض الأماكن التي تذكرهم برجال الجهاد، كالبقيع، وأحد، والخندق....
فهل يتذكرون صنو المسجدين العظيمين وثالثهما: ذلك المسجد الأسير " الأقصى" الذي يدنسه أبناء القردة والخنازير.
فهل تذكرتم يا حجاج بيت الله الحرام، أبناء الصحابة والتابعين في الأرض المباركة، الذين يقذفهم اليهود بالقنابل والرشاشات والمدافع، والطائرات والدبابات، ويهدمون منازلهم ويخرجونهم منها في العراء، ويحاصرونهم في قِطَع من الأرض، حتى لا يقدر القريب أن يزور قريبه، ويمنعون عنهم وصول الغذاء والدواء والملبس والمشرب؟
هل تذكرتم قبلتكم الأولى، ومسرى نبيكم صلى الله عليه وسلم ومعراجه؟
هل تذكرتم أن من أهم ثمرات حج بيت الله الحرام أن الله قد أذن للذين يقاتلهم أعداء الله بقتال الأعداء؟ وأن من ثمرات الحج دفع العدوان عن المساجد والمعابد.
اقرؤوا بتدبر وتفكروا في هذه الآيات الواردة في الحج، وكيف ختمت بقتال المسلمين من يقاتلهم ظلما وعدوانا، وبدفع المسلمين الاعتداء على المساجد والمعابد من أن تهدم أو تمس بسوء.
اقرؤوا هذه الآيات، واصبروا على قراءتها تقبل الله حجكم، ورزقكم الجهاد في سبيل الله لرد العدوان عن أنفسكم وإخوانكم، ودفع العدو عن تدنيس المساجد وتهديمها، وبخاصة المسجد الأقصى الأسير الذي دنسه أرذل خلق الله في الأرض "اليهود" فدفع العدوان عن إخوانكم، ودفعه عن مساجدكم ينبغي أن يكون من ثمرات حجكم:
بدأت الآيات المتعلقة بالحج من الآية السادسة والعشرين من سورة الحج، وهي قوله:
((وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود)) (26)
وانتهت بالآية السابعة والثلاثين، وهي قوله تعالى:
((لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين)) (37)
وأتبعها تعالى بقوله :
((إن الله يدافع عن الذين ءامنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور(38) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير(39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)) (40)
وإنه ليبدو لي من ذكر هذه الآيات الأخيرة بعد آيات الحج، أن من أهم آثار الحج في حياة المسلمين، أن يقاتلوا من يقاتلهم من الأعداء، وأن يحموا بيوت الله من عدوان من أراد إفسادها ماديا أو معنويا، لأن في مناسك الحج تدريبا على التعب والصبر والنظام والانضباط، وبذل المال، وشد الرحال، وأهم من ذلك كله التزكية الإيمانية والطاعة لله والإخلاص له، وفي ذلك كله شبه بمشاق الجهاد ونظامه ....
هل تذكرتم أن الجبن عن دخول الأرض المقدسة لإخراج العدو منها، هو من صفات اليهود، وليس من صفات المسلمين؟!
فقد حكى الله موقف اليهود عندما أمرهم موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة في هذه الآيات، وهي واضحة في الدلالة على جبنهم:
((وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين(20) ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين(21) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون)) [المائدة:22]
هاهو الأقصى الحزين يذكرنا، إن لم نكن قد تذكرنا. فهل من سامع للتذكير، وهل من مجيب لمستغيث؟؟؟!!!
اللهم امنح حجاج بيتك الحرام والمسلمين في الأرض قائدا يؤمهم في المسجد الحرام، ومسجد نبيك الكريم، ثم يقودهم تحت رايتك لتحرير بيتك الثالث: "المسجد الأقصى" من أعدائك اليهود، الذين احتلوه وأحرقوه ودنسوه، وداسوا كرامة أهله، ليؤمهم فيه، كما أمهم في صنويه: البيت الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. يارب العالمين، يا أرحم الراحمين.
لقد فتح القدس في صدر الإسلام عمر، وحررها من الصليبيين صلاح الدين، فهل سيجد من قادة المسلمين السياسيين والعسكريين شبيها لهما أو لأحدهما؟
لعل الله يأتي باليوم الذي ينطلق فيه حجاج بيت الله الحرام من أول المساجد الثلاثة بعد أداء مناسكهم، لتحرير بيته الثالث "المسجد الأقصى" ليتحقيق هذا الترتيب الرباني في كتابه في واقع المسلمين اللهم آمين.
وبهذا يظهر أثر الحج في تزكية النفس وتطهيرها وتضحيتها وأهليتها لتكون مجاهدة في سبيل الله.
أثر صلة الرحم في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
المقصود بالرحم ـ هنا ـ القرابة، والمقصود بالصلة البر والإحسان، أي البر بذوي القربى والإحسان إليهم، وهذه الصلة تتفاوت درجات وجوبها بحسب درجة ذي القربى قرباً وبعداً، والصلة قد تكون صلة بتعليم ذوي القربى أمور دينهم التي يجهلونها ـ لا سيما الواجبات العينية ـ وقد تكون بالإحسان المادي إليهم أو ما شابه ذلك.
والإنسان الذي يقطع رحمه ولا يصلها، عاصٍ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، مرتكب لما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، قاطع ما أمر الله به أن يوصل، وقد ذمه الله تعالى ذماً شديداً، وأوجب عليه لعنته، وجعله معرضاً لطمس بصيرته، كما قال تعالى: ((فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)) [محمد: 22 ـ23].
وقد أخذت الرحم وعداً من الله تعالى ـ والله لا يخلف وعده ـ بأن يصل من وصلها ويقطع من قطعها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن، فقال لها: مه قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعكِ؟ قالت: بلى يا رب. قال: فذاك) [البخاري رقم4830 فتح الباري (8/579) ومسلم (4/1980)].
وفي حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا لا يدخل الجنة قاطع) [البخاري رقم 5984 فتح الباري (10/415) ومسلم (4/1981)].
والنصوص في الواردة في صلة الرحم والنهي عن قطعها كثيرة منها العام، كما مضى ومنها الخاص بنوع من القرابة، (كالوالدين) وغيرهما.
والمقصود أن الذي لا يجاهد نفسه على صلة أرحامه، ليس أهلاً للجهاد في سبيل الله، لأنه عاصٍ لله ولرسوله قاطع لرحمه، وقد يكون سبباً في منع الله نصر المؤمنين على أعدائهم، وقد يكون غير قادر على الصبر والمصابرة أمام الأعداء.
لهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من استأذنه في الجهاد معه دون أن يستأذن والديه، أن يرجع إليهما ويجاهد في طاعتهما والقيام بحقوقهما، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: جاء رجل النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: (أحي والداك) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد) [البخاري رقم 3004 فتح الباري (6/140) ومسلم (4/1975)].
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: (هذا كله دليل لعظم فضيلة برهما وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قاله العلماء أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين، أو بإذن المسلم منهما.. هذا كله إذا لم يحضر الصف ويتعين القتال، وإلا فحيئذٍ يجوز بغير إذن، وأجمع العلماء على الأمر ببر الوالدين وأن عقوقهما حرام من الكبائر. [شرح النووي على صحيح مسلم (16/104)].
وقد يعرض عاق والديه نفسه لغضبهما عليه ودعائهما، ودعوة المظلوم مستجابة ولو كان كافراً، والعدل واجب ولو لكافر، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً، فإنه ليس دونها حجاب) [أحمد في المسند (3/153) والأحاديث الصحيحة للألباني (2/407)].
وقال تعالى في وجوب العدل ـ ولو لمن يبغضهم المؤمن في الله وهم الكفار ـ: ((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)) [المائدة: 8].
ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنه بقصة جريج الراهب ـ وهو رجل من بني إسرائيل _محذراً إياهم من عقوق الوالدين، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج، كان يصلي جاءته أمه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات.
وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه.
فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام، قال: الراعي، قالوا نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين) [البخاري رقم 3436 فتح الباري (6/476) ومسلم (4/1976)].
أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة من أهم قواعد الإسلام التي لا قوام لأمته إلا بها، وهو عنوان فلاح المسلمين وفوزهم ومنطلق أهليتهم لقيادة البشرية، فإذا حققوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أنفسهم كانوا أهلاً لتحقيقه في سواهم من أمم الكفر والضلال، وإلا كانوا أهلاً لغضب الله وسخطه ولعنته، ومن كان معرضاً لسخط الله وعظيم عقابه، كيف يكون جديراً بالكون في صف المجاهدين في سبيل الله.
فالمؤمنون لا ينجيهم من الخسران أن يقوم كل واحد منهم بما كلفه الله إياه، دون أن يتواصى مع غيره من إخوانه المؤمنين بالحق والصبر، قال تعالى: ((والعصر إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين أمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)) [العصر].
وكيف يقف الصف المخلخل الذي يبتعد أفراده عن الله بترك طاعته والولوغ في مستنقع معاصيه، ولا يوجد فيه من يغضب لله فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟
كيف يقف هؤلاء في هذا الصف في وجه عدوهم مجاهدين في سبيل ربهم، ولم تتوافر فيهم صفات عباد الله المؤمنين الذين قال تعالى عنهم: : ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)) [التوبة: 71].
وهم الذين قصر الله الفلاح عليهم، كما قال: (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون)) [آل عمران: 104].
وأوضح سبحانه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان به هي موجبات قيادة هذه الأمة لغيرها من الأمم قال تعالى: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس؛ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله..)) [آل عمران: 110].
يظهر من هذا أن النصر على الأعداء لا يكون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الخيرية المذكورة لا تتم بدون موجباتها المذكورة بعدها.
وقد لعن الله بني إسرائيل الذين لم يتناهوا فيما بينهم عن المنكر، وإذا عملت هذه الأمة مثل عمل بني إسرائيل فحكمها حكم بني إسرائيل، قال تعالى: ((لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)) [المائدة: 78 ـ79]
ومما يدل على ذلك ما أورده ابن كثير في تفسير الآية، قال: (وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا شريح ـ وساق سنده إلى أن قال ـ : عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما وقعت بنوا إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم") قال يزيد وأحسبه قال: (في أسواقهم وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم). ((ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً) [تفسير القرآن العظيم ( 2/82 ـ 83 ) ].
والأمة التي يستشري فيها الشر والفساد مثل السفينة التي ألقي بها في بحر لجي لتمخر عبابه، وهي مخرقة تقذف أمواج البحر بمياهه بداخلها من تلك الخروق، فهل يقدر ربانها على قيادتها إلى شاطئ الأمان، وهل يستحق أهلها الذي ألقوها في ذلك البحر اللجي وهم يعلمون ما بها من خروق أن ينالوا النجاة، كيف الأمر لو كانت سليمة قادرة على مصارعة الأمواج فأرادت فئة من ركابها أن تخرقها وهي تمخر عباب البحر وسكت عنهم بقية الركاب؟
والجواب في الحديث الصحيح الذي رواه النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) [صحيح البخاري رقم الحديث 2493، فتح الباري (5/132)]. قال الحافظ بن حجر: (وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) [الفتح (5/296)]، فأثر القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفوز والقيادة للبشرية وأثر تركه الهلاك والخسران والذل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق