حاجتنا الى الابداع ( 1 )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ميز ﻤﻌﻅﻡ ﺍﻟﺒﺎﺤﺜﻴﻥ ﺒﻴﻥ ﻨﻭﻋﻴﻥ ﻤﻥ الإبداع هما: ﺍﻹﺒﺩﺍﻉ ﺍﻟﻔﻨﻲ ﺍﻟﺫﻱ ﻴﺸﻤل ﺘﻐﻴﺭﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻘﻨﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﺴﺘﺨﺩﻤﻬﺎ ﺍﻟﻤﻨﻅﻤﺔ، والإبداع ﺍﻹﺩﺍﺭﻱﺍﻟﺫﻱ ﻴﺘﻀﻤﻥ الإجراءات والأدوار، ﻭﺍﻟﺒﻨـﺎﺀ ﺍﻟﺘﻨﻅﻴﻤـﻲ ﻭﺍﻟﻘﻭﺍﻋﺩ، ﻭﺇﻋﺎﺩﺓ ﺘﺼﻤﻴﻡ ﺍﻟﻌﻤل بالإضافة ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﺸﺎﻁﺎﺕ ﺍﻹﺒﺩﺍﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘـﻲ ﺘﻬـﺩﻑ ﺇﻟـﻰ ﺘﺤـﺴﻴﻥ العلاقات ﺒﻴﻥ ﺍﻷﻓﺭﺍﺩ، والتفاعل فيما بينهم ﺒﻐﻴﺔ ﺍﻟﻭﺼﻭل ﺇﻟﻰ ﺘﺤﻘﻴـﻕ ﺍﻷﻫـﺩﺍﻑ ﺍﻟﻤﻌﻨﻴـﺔ ﺒﻬـﺎ المنظمة.
ومِن الأمثلة على الإبداع أو ما يمكن أن نسميه بـ"الكفاءة والتجديد" في الدعوة إلى الله -تعالى-: سيرة سيدنا إبراهيم -عليه السلام-، فقد ابتكر وسائل متنوعة لهداية قومه إلى التوحيد عندما لجأ إلى تكسير الأصنام وترك لهم الصنم الأكبر؛ ليحتج عليهم به، وأنه لو كان يسمع أو يبصر لعرف مَن الذي كسر بقية الأصنام.
ولئن كان إبراهيم -عليه السلام- قد ضرب المثل في "الكفاءة التقنية"، فلقد ضرب حفيده يوسف -عليه السلام- المثل في "الكفاءة الإدارية" حيث قال لعزيز مصر: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف:55)، فما أروع هذا النظام الإداري الذي مكنه من أن يقوم بتخزين الغلال سبعة أعوام متتالية ثم ينتفع بها لمدة سبعة أعوام كاملة، هذا ما قد لا تحسنه أكثر الحكومات الحديثة تقدمًا.
وفي قصة يوسف -عليه السلام- ملمح مهم في بيان أهمية الجمع بين "الكفاءة الإدارية" و"الكفاءة التقنية"، وذلك أن مظهر "الكفاءة التقنية" قوله: (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) (يوسف:47) لكنه علم أن هذه الفكرة الفنية الممتازة لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع إلا في ظل وجود مدير كفء يستطيع ترتيب الصوامع والدواوين، وتخصيص حصص خاصة لا تتعداها كل أسرة، وتحديد المكاييل مما يشعر به سياق القصة التي فيها قوله: (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) (يوسف:59) مما يوحي أنه كان يخصص لكل أسرة مقدارًا محددًا من الغلال، وكذلك قوله: (صُوَاعَ الْمَلِكِ) (يوسف:72)، مما يوحي بأنه كان يحدد مكيالاً واحدًا، وأن هناك خطة واضحة لتوزيع الغلال.
الشاهد أن يوسف -عليه السلام- لما علم أن مجرد طرحه لفكرته العظيمة في حفظ الغلال لا يكفي في حماية الناس من الهلاك بالمجاعة؛ لأن أهل "مصر" في هذا الوقت لم يكن لديهم المدير الكفء القادر على تحقيق هذه الفكرة في الواقع، فلم يكتف بمجرد طرح الفكرة والتعويل على جودتها، بل طلب الإمارة؛ لعلمه أن "الكفاءة الفنية" لا تغني عن "الكفاءة الإدارية".
وقد قصَّ الله علينا في القرآن الكريم قصة أخرى تدل على ضرورة الجمع بين "الكفاءة التقنية" و"الكفاءة الإدارية"، وهي قصة ذي القرنين، فهو حين أراد بناء السد؛ لم يبنه بالوسائل المتعارف عليها في البناء من الحجارة وما شابهها، بل ابتكر طريقة لم تكن منتشرة في ذلك الوقت، بل ذكر بعض الباحثين أن "ذا القرنين" هو أول من استخدم السبائك، وذكر بعض المهتمين بالإعجاز العلمي قوله -تعالى-: (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) (الكهف:96) في ضمن آيات الإعجاز العلمي بما لا يناسب المقام ذكره.
الشاهد أن "ذا القرنين" لم يكتفِ بـالتقنية و"الكفاءة الفنية"، بل لم ينجح إلا حين ضم إليه "الكفاءة الإدارية"، فقد نجح في توظيف الطاقات (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) (الكهف:95)، ونظم العمل وقسمه إلى مراحل في كل مرحلة مهام خاصة بما توحي به لفظة: (حَتَّى إِذَا) (الكهف:96) التي تكررت بين مراحل إنجاز العمل: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) (الكهف:96).
وسجل الله -تعالى- نجاحه في إنجاز المهمة، فقال: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) (الكهف:97)، ورغم اتباع ذو القرنين للأسباب، إلا أنه نسب الفضل لله -تعالى-، وهذا أول أسباب التوفيق (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) (الكهف:98).
والمتتبع لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ يجد أرقى صور "الكفاءة والقوة الإدارية" حيث كانت نشأة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين العرب المعروفين بالتفرق والتشرذم، فنجح أن يخرج منهم أقوى الدول نظامًا، ومهد لأن تتبوأ مكان الصدارة وترث مكانة "فارس" و"الروم" في آن واحد.
ومن النماذج على جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين "الكفاءة والقوة التقنية" و"الكفاءة والقوة الإدارية": ما فعله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة "الأحزاب"، ففكرة حفر الخندق أصلاً هي "فكرة فنية"، فهي وسيلة جديدة مبتكرة لم تكن العرب تستخدمها في حروبها، لكن لم يكن لهذه الفكرة أن تؤتي ثمارها إلا في ظل "الكفاءة والقوة الإدارية" الذي كان يتمتع بها النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهذه أهم مسئوليات الإدارة، وهي تعتمد على توفير المعلومات، وتحديد قنوات سالكة؛ لانتقالها بسهولة، وفتح باب الاستفادة منها، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على أن تتوفر لديه المعلومات، وبذلك كانت المعلومة بتجهيز قريش وغطفان لغزو "المدينة" متوفرة، بل معها تفاصيل بعدد الجيش والموعد المتوقع لقدومه، ثم فتح باب المشورة مما أتاح له فرصة الاستفادة من خبرة "سلمان" -رضي الله عنه- بحروب فارس.
وكذلك من أهم مقومات "الكفاءة والقوة الإدارية": الاستعداد لتحمل المخاطرة؛ وإلا فكل فكرة لها تكاليفها، وهنا يبرز دور القائد الكفء الذي يتميز بالخبرة العالية الممزوجة بنوع من الحدس الصادق، فيسمح بتطبيق الأفكار ذات الكفاءة والقوة الإدارية، وهو يشعر بأن نتائجها ستعوضه عما بذله من تكاليف؛ وإلا فالإحجام يحسنه كل أحد، وكذلك التهور والمجازفة، لكن القائد صاحب الكفاءة والقوة الإدارية هو من يقدم على أنواع من المخاطرة المدروسة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ميز ﻤﻌﻅﻡ ﺍﻟﺒﺎﺤﺜﻴﻥ ﺒﻴﻥ ﻨﻭﻋﻴﻥ ﻤﻥ الإبداع هما: ﺍﻹﺒﺩﺍﻉ ﺍﻟﻔﻨﻲ ﺍﻟﺫﻱ ﻴﺸﻤل ﺘﻐﻴﺭﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻘﻨﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﺴﺘﺨﺩﻤﻬﺎ ﺍﻟﻤﻨﻅﻤﺔ، والإبداع ﺍﻹﺩﺍﺭﻱﺍﻟﺫﻱ ﻴﺘﻀﻤﻥ الإجراءات والأدوار، ﻭﺍﻟﺒﻨـﺎﺀ ﺍﻟﺘﻨﻅﻴﻤـﻲ ﻭﺍﻟﻘﻭﺍﻋﺩ، ﻭﺇﻋﺎﺩﺓ ﺘﺼﻤﻴﻡ ﺍﻟﻌﻤل بالإضافة ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﺸﺎﻁﺎﺕ ﺍﻹﺒﺩﺍﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘـﻲ ﺘﻬـﺩﻑ ﺇﻟـﻰ ﺘﺤـﺴﻴﻥ العلاقات ﺒﻴﻥ ﺍﻷﻓﺭﺍﺩ، والتفاعل فيما بينهم ﺒﻐﻴﺔ ﺍﻟﻭﺼﻭل ﺇﻟﻰ ﺘﺤﻘﻴـﻕ ﺍﻷﻫـﺩﺍﻑ ﺍﻟﻤﻌﻨﻴـﺔ ﺒﻬـﺎ المنظمة.
ومِن الأمثلة على الإبداع أو ما يمكن أن نسميه بـ"الكفاءة والتجديد" في الدعوة إلى الله -تعالى-: سيرة سيدنا إبراهيم -عليه السلام-، فقد ابتكر وسائل متنوعة لهداية قومه إلى التوحيد عندما لجأ إلى تكسير الأصنام وترك لهم الصنم الأكبر؛ ليحتج عليهم به، وأنه لو كان يسمع أو يبصر لعرف مَن الذي كسر بقية الأصنام.
ولئن كان إبراهيم -عليه السلام- قد ضرب المثل في "الكفاءة التقنية"، فلقد ضرب حفيده يوسف -عليه السلام- المثل في "الكفاءة الإدارية" حيث قال لعزيز مصر: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف:55)، فما أروع هذا النظام الإداري الذي مكنه من أن يقوم بتخزين الغلال سبعة أعوام متتالية ثم ينتفع بها لمدة سبعة أعوام كاملة، هذا ما قد لا تحسنه أكثر الحكومات الحديثة تقدمًا.
وفي قصة يوسف -عليه السلام- ملمح مهم في بيان أهمية الجمع بين "الكفاءة الإدارية" و"الكفاءة التقنية"، وذلك أن مظهر "الكفاءة التقنية" قوله: (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) (يوسف:47) لكنه علم أن هذه الفكرة الفنية الممتازة لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع إلا في ظل وجود مدير كفء يستطيع ترتيب الصوامع والدواوين، وتخصيص حصص خاصة لا تتعداها كل أسرة، وتحديد المكاييل مما يشعر به سياق القصة التي فيها قوله: (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) (يوسف:59) مما يوحي أنه كان يخصص لكل أسرة مقدارًا محددًا من الغلال، وكذلك قوله: (صُوَاعَ الْمَلِكِ) (يوسف:72)، مما يوحي بأنه كان يحدد مكيالاً واحدًا، وأن هناك خطة واضحة لتوزيع الغلال.
الشاهد أن يوسف -عليه السلام- لما علم أن مجرد طرحه لفكرته العظيمة في حفظ الغلال لا يكفي في حماية الناس من الهلاك بالمجاعة؛ لأن أهل "مصر" في هذا الوقت لم يكن لديهم المدير الكفء القادر على تحقيق هذه الفكرة في الواقع، فلم يكتف بمجرد طرح الفكرة والتعويل على جودتها، بل طلب الإمارة؛ لعلمه أن "الكفاءة الفنية" لا تغني عن "الكفاءة الإدارية".
وقد قصَّ الله علينا في القرآن الكريم قصة أخرى تدل على ضرورة الجمع بين "الكفاءة التقنية" و"الكفاءة الإدارية"، وهي قصة ذي القرنين، فهو حين أراد بناء السد؛ لم يبنه بالوسائل المتعارف عليها في البناء من الحجارة وما شابهها، بل ابتكر طريقة لم تكن منتشرة في ذلك الوقت، بل ذكر بعض الباحثين أن "ذا القرنين" هو أول من استخدم السبائك، وذكر بعض المهتمين بالإعجاز العلمي قوله -تعالى-: (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) (الكهف:96) في ضمن آيات الإعجاز العلمي بما لا يناسب المقام ذكره.
الشاهد أن "ذا القرنين" لم يكتفِ بـالتقنية و"الكفاءة الفنية"، بل لم ينجح إلا حين ضم إليه "الكفاءة الإدارية"، فقد نجح في توظيف الطاقات (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) (الكهف:95)، ونظم العمل وقسمه إلى مراحل في كل مرحلة مهام خاصة بما توحي به لفظة: (حَتَّى إِذَا) (الكهف:96) التي تكررت بين مراحل إنجاز العمل: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) (الكهف:96).
وسجل الله -تعالى- نجاحه في إنجاز المهمة، فقال: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) (الكهف:97)، ورغم اتباع ذو القرنين للأسباب، إلا أنه نسب الفضل لله -تعالى-، وهذا أول أسباب التوفيق (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) (الكهف:98).
والمتتبع لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ يجد أرقى صور "الكفاءة والقوة الإدارية" حيث كانت نشأة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين العرب المعروفين بالتفرق والتشرذم، فنجح أن يخرج منهم أقوى الدول نظامًا، ومهد لأن تتبوأ مكان الصدارة وترث مكانة "فارس" و"الروم" في آن واحد.
ومن النماذج على جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين "الكفاءة والقوة التقنية" و"الكفاءة والقوة الإدارية": ما فعله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة "الأحزاب"، ففكرة حفر الخندق أصلاً هي "فكرة فنية"، فهي وسيلة جديدة مبتكرة لم تكن العرب تستخدمها في حروبها، لكن لم يكن لهذه الفكرة أن تؤتي ثمارها إلا في ظل "الكفاءة والقوة الإدارية" الذي كان يتمتع بها النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهذه أهم مسئوليات الإدارة، وهي تعتمد على توفير المعلومات، وتحديد قنوات سالكة؛ لانتقالها بسهولة، وفتح باب الاستفادة منها، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على أن تتوفر لديه المعلومات، وبذلك كانت المعلومة بتجهيز قريش وغطفان لغزو "المدينة" متوفرة، بل معها تفاصيل بعدد الجيش والموعد المتوقع لقدومه، ثم فتح باب المشورة مما أتاح له فرصة الاستفادة من خبرة "سلمان" -رضي الله عنه- بحروب فارس.
وكذلك من أهم مقومات "الكفاءة والقوة الإدارية": الاستعداد لتحمل المخاطرة؛ وإلا فكل فكرة لها تكاليفها، وهنا يبرز دور القائد الكفء الذي يتميز بالخبرة العالية الممزوجة بنوع من الحدس الصادق، فيسمح بتطبيق الأفكار ذات الكفاءة والقوة الإدارية، وهو يشعر بأن نتائجها ستعوضه عما بذله من تكاليف؛ وإلا فالإحجام يحسنه كل أحد، وكذلك التهور والمجازفة، لكن القائد صاحب الكفاءة والقوة الإدارية هو من يقدم على أنواع من المخاطرة المدروسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق